فصل: من فوائد صاحب الأمثل في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد صاحب الميزان في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} إلى آخر الآية.
ذكروا في وجه اتصال الآية بما قبلها أن الآية السابقة لما ختمت بقوله: {والله أعلم بالظالمين} زاد الله سبحانه في بيانه فذكر أن خزائن الغيب أو مفاتيح تلك الخزائن عنده سبحانه لا يعلمها إلا هو، ويعلم كل دقيق وجليل.
وهذا الوجه لا يتضح به معنى الحصر الذي يدل عليه قوله: {لا يعلمها إلا هو} فالاولى أن يوجه الاتصال بما يشتمل عليه مجموع الآيتين السابقتين أعنى قوله: {قل إنى على بينة من ربى} إلى قوله: {والله أعلم بالظالمين} حيث يدل المجموع على أن ما كانوا يقترحونه من الآية وما يستتبعه من الحكم الفصل والقضاء بينه وبينهم إنما هو عند الله لا سبيل إليه لغيره فهو العالم بذلك الحاكم به، ولا يغلط في حكمه الفصل وتعذيب الظالمين لأنه أعلم بهم فهو عالم بالغيب لا يشاركه فيه غيره، وعالم بكل ما جل ودق لا يضل ولا ينسى، ثم زاد ذلك بيانا بقوله: {وعنده مفاتح الغيب} الآية فبين به اختصاصه تعالى بعلم الغيب وشمول علمه كل شئ، ثم تمم البيان بالآيات الثلاث التي تتلوها.
وبذلك تصير الآيات جارية مجرى ما سيقت إليه نظائرها في مثل المورد كقوله تعالى في قصه هود وقومه: {قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما ارسلت به} [الأحقاف: 23].
ثم نقول: المفاتح جمع مفتح بفتح الميم وهو الخزينة، وربما احتمل أن يكون جمع مفتح بكسر الميم وهو المفتاح، ويؤيده ما قرئ شاذا: {وعنده مفاتيح الغيب} ومآل المعنيين واحد فإن من عنده مفاتيح الخزائن هو عالم بما فيها قادر على التصرف فيها كيف شاء عادة كمن عنده نفس الخزائن إلا أن سائر كلامه تعالى فيما يشابه هذا المورد يؤيد المعنى الأول فإنه تعالى كرر في كلامه ذكر خزائنه وخزائن رحمته- وذلك في سبعة مواضع- ولم يذكر لها مفاتيح في شيء من كلامه قال تعالى: {أم عندهم خزائن ربك} [الطور: 37] وقال: {لاأقول لكم عندي خزائن الله} [الأنعام: 50] وقال: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه} [الحجر: 21] وقال: {ولله خزائن السماوات والأرض} [المنافقون: 7] وقال: {أم عندهم خزائن رحمة ربك} [ص: 9] فالاقرب أن يكون المراد بمفاتح الغيب خزائنه.
وكيف كان فقوله: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} مسوق لبيان انحصار العلم بالغيب فيه تعالى إما لأن خزائن الغيب لا يعلمها إلا الله، وإما لأن مفاتيح الغيب لا يعلمها غيره تعالى فلا سبيل لغيره إلى تلك الخزائن إذ لا علم له بمفاتيحها التي يتوصل بها إلى فتحها والتصرف فيها.
وصدر الآية وإن أنبأ عن انحصار علم الغيب فيه تعالى لكن ذيلها لا يختص بعلم الغيب بل ينبئ عن شمول علمه تعالى بكل شيء أعم من أن يكون غيبا أو شهادة فإن كل رطب ويابس لا يختص بما يكون غيبا وهو ظاهر فالآية بمجموعها يبين شمول علمه تعالى لكل غيب وشهادة، غير أن صدرها يختص ببيان علمه بالغيوب، وذيلها ينبئ عن علمه بكل شيء أعم من الغيب والشهادة.
ومن جهة أخرى صدر الآية يتعرض للغيوب التي هي واقعة في خزائن الغيب تحت أستار الخفاء وأقفال الابهام، وقد ذكر الله سبحانه في قوله: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم} [الحجر: 21] أن التي في خزائن الغيب عنده من الأشياء امور لا يحيط بها الحدود المشهودة في الأشياء، ولا يحصرها الاقدار المعهودة، ولا شك انها انما صارت غيوبا مخزونة لما فيها من صفة الخروج عن حكم الحد والقدر فإنا لا نحيط علما إلا بما هو محدود ومقدر، وأما التي في خزائن الغيب من الأشياء فهى قبل النزول في منزل الشهود والهبوط إلى مهبط الحد والقدر، وبالجملة قبل أن يوجد بوجوده المقدر له غير محدودة مقدرة مع كونها ثابتة نوعا من الثبوت عنده تعالى على ما تنطق به الآية.
فالأمور الواقعة في هذا الكون المشهود المسجونة في سجن الزمان هي قبل وقوعها وحدوثها موجودة عند الله ثابته في خزائنه نوعا من الثبوت مبهما غير مقدر وإن لم نستطع أن نحيط بكيفية ثبوتها فمن الواقع في مفاتح الغيب وخزائنه الأشياء قبل حدوثها واستقرارها في منزلها المقدر لها من منازل الزمان، ولعل هناك أشياء أخر مذخورة مخزونة لا تسانخ ما عندنا من الأمور الزمانية المشهودة المعهودة، ولنسم هذا النوع من الغيب غير الخارج إلى عرصة الشهود بالغيب المطلق.
وأما الأشياء بعد تلبسها بلباس التحقق والوجود ونزولها في منزلها بالحد والقدر فالذي في داخل حدودها وأقدارها يرجع بالحقيقة إلى ما في خزائن الغيب ويرجع إلى الغيب المطلق، وأما هي مع ما لها من الحد والقدر فهى التي من شأنها أن يقع عليها شهودنا ويتعلق بها علمنا فعند ما نعلم بها تصير من الشهادة وعند ما نجهل بها تصير غيبا، ومن الحرى أن نسميها عند ما تصير مجهولة لنا غيبا نسبيا لأن هذا الوصف الذي يطرؤها عندئذ وصف نسبي يختلف بالنسب والاضافات كما أن ما في الدار مثلا من الشهادة بالنسبة إلى من فيها، ومن قبيل الغيب بالنسبة إلى من هو في خارجها، وكذا الاضواء والالوان المحسوسة بحاسة البصر من الشهادة بالنسبة إلى البصر، ومن الغيب بالنسبة إلى حاسة السمع، والمسموعات التي ينالها السمع شهادة بالنسبة إليه وغيب بالنسبة إلى البصر، ومحسوساتهما جميعا من الشهادة بالنسبة إلى الإنسان الذي يملكهما في بدنه ومن الغيب بالنسبة إلى غيره من الأناسى.
والتى عدها تعالى في الايه بقوله: {ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبه في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس} من هذا الغيب النسبى فإنها جميعا أمور محدودة مقدرة لا تأبى بحسب طبعها أن يتعلق بها علمنا ولا أن يكون مشهودة لنا فهى من الغيب النسبى.
وقد دلت الآية على ان هذه الأمور في كتاب مبين فما هو الذي منها في كتاب مبين؟ أهو هذه الأشياء من جهة شهادتها وغيبها جميعا أم هي من جهة غيبهافقط؟ وبعبارة أخرى: الكتاب المبين أهو هذا الكون المشتمل على اعيان هذه الأشياء لا يغيب عنه شيء منها وإن غاب بعضها عن بعض ام هو أمر وراء هذا الكون مكتوبة فيه هذه الأشياء نوعا من الكتابة مخزونة فيه نوعا من الخزن غائبة من شهادة الشهداء من اهل العالم فيكون ما في الكتاب من الغيب المطلق.
وبلفظ آخر الأشياء الواقعة في الكون المعدودة بنحو العموم في الآية أهى واقعة بنفسها في الكتاب المبين كما تقع الخطوط بأنفسها في الكتب التي عندنا أم هي واقعة بمعانيها فيه كما تقع المطالب الخارجية بمعانيها بنوع من الوقوع في ما نكتبه من الصحائف والرسائل ثم تطابق الخارج مطابقة العلم العين؟.
لكن قوله تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها} [الحديد: 22] يدل على ان نسبة هذا الكتاب إلى الحوادث الخارجية نسبة الكتاب الذي يكتب فيه برنامج العمل إلى العمل الخارجي، ويقرب منه قوله تعالى: {وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} [يونس: 61] وقوله: {لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} [سبا: 3] وقوله: {قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربى في كتاب لا يضل ربى ولا ينسى} [طه: 52] إلى غير ذلك من الآيات.
فالكتاب المبين أيا ما كان هو شيء غير هذه الخارجيات من الأشياء بنحو من المغايرة، وهو يتقدمها ثم يبقى بعد فنائها وانقضائها كالبرنامجات المكتوبة للاعمال التي تشتمل على مشخصات الأعمال قبل وقوعها ثم تحفظ المشخصات المذكورة بعد الوقوع.
على أن هذا الموجودات والحوادث التي في عالمنا متغيرة متبدلة تحت قوانين الحركة العامة والآيات تدل على عدم جواز التغير والفساد فيما يشتمل عليه هذا الكتاب كقوله تعالى: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} [الرعد: 39] وقوله: {في لوح محفوظ} [البروج: 22] وقوله: {وعندنا كتاب حفيظ} [ق: 4] فالايات- كما ترى- تدل على أن هذا الكتاب في عين أنه يشتمل على جميع مشخصات الحوادث وخصوصيات الاشخاص المتغيرة المتبدلة لا يتبدل هو في نفسه ولا يتسرب إليه أي تغير وفساد.
ومن هنا يظهر أن هذا الكتاب بوجه غير مفاتح الغيب وخزائن الأشياء التي عند الله سبحانه فإن الله تعالى وصف هذه المفاتح والخزائن بأنها غير مقدرة ولا محدودة، وإن القدر إنما يلحق الأشياء عند نزولها من خزائن الغيب إلى هذا العالم الذي هو مستوى الشهادة، ووصف هذا الكتاب بأنه يشتمل على دقائق حدود الأشياء وحدود الحوادث، فيكون الكتاب المبين من هذه الجهة غير خزائن الغيب التي عند الله سبحانه، وإنما هو شيء مصنوع لله سبحانه يضبط سائر الأشياء ويحفظها بعد نزولها من الخزائن وقبل بلوغها منزل التحقق وبعد التحقق والانقضاء.
ويشهد بذلك أن الله سبحانه إنما ذكر هذا الكتاب في كلامه لبيان إحاطة علمه بأعيان الأشياء والحوادث الجارية في العالم سواء كانت غائبة عنا أو مشهودة لنا، وأما الغيب المطلق الذي لا سبيل لغيره تعالى إلى الاطلاع عليه فإنما وصفه بأنه في خزائنه والمفاتح التي عنده لا يعلمها إلا هو بل ربما أشعرت أو دلت بعض الآيات على جواز اطلاع غيره على الكتاب دون الخزائن كقوله تعالى: {في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون} [الواقعة: 79].
فما من شيء مما خلقه الله سبحانه إلا وله في خزائن الغيب أصل يستمد منه، وما من شيء مما خلقه الله إلا والكتاب المبين يحصيه قبل وجوده وعنده وبعده غير أن الكتاب أنزل درجة من الخزائن، ومن هنا يتبين للمتدبر الفطن أن الكتاب المبين- في عين أنه كتاب محض- ليس من قبيل الألواح والأوراق الجسمانية فإن الصحيفة الجسمانية أيا ما فرضت وكيفما قدرت لا تحتمل أن يكتب فيها تاريخ نفسه فيما لا يزال فضلا عن غيره فضلا عن كل شيء في مدى الأبد.
فقد بان بما مر من البحث أولا: أن المراد بمفاتح الغيب الخزائن الإلهية التي تشتمل على الأشياء قبل تفريغها في قالب الأقدار، وهى تشتمل على غيب كل شيء على حد ما يدل عليه قوله تعالى: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم} [الحجر: 21].
وثانيا: أن المراد بالكتاب المبين أمر نسبته إلى الأشياء جميعا نسبة الكتاب المشتمل على برنامج العمل إلى نفس العمل ففيه نوع تعيين وتقدير للاشياء إلا أنه موجود قبل الأشياء ومعها وبعدها، وهو المشتمل على علمه تعالى بالاشياء علما لا سبيل للضلال والنسيان إليه، ولذلك ربما يحدس أن المراد به مرتبة واقعية الأشياء وتحققها الخارجي الذي لا سبيل للتغير إليه فإن شيئا ما لا يمتنع من عروض التغير عليه إلا بعد الوقوع وهو الذي يقال: إن الشيء لا يتغير عما وقع عليه.
وبالجملة هذا الكتاب يحصى جميع ما وقع في عالم الصنع والايجاد مما كان وما يكون وما هو كائن من غير أن ان يشذ عنه شاذ إلا أنه مع ذلك إنما يشتمل على الأشياء من حيث تقدرها وتحددها، ووراء ذلك ألواح وكتب تقبل التغيير والتبديل، وتحتمل المحو والاثبات كما يدل عليه قوله تعالى: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب} فإن المحو والاثبات- وخاصة إذا قوبلا بام الكتاب- إنما يكونان في الكتاب.
وعند ذلك يتضح اتصال الآية أعنى قوله: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} إلى آخر الآية بما قبلها من الآيات فإن محصل الآيتين السابقتين أن الذي تقترحونه على من الآيات القاضية بينى وبينكم ليس في مقدرتي، ولا الحكم الحق راجع إلى بل هو عند ربى في علمه وقدرته ولو كان ذلك إلى لقضى بينى وبينكم وأخذكم العذاب الذي لا يأخذ إلا الظالمين لأن الله يعلم أنكم أنتم الظالمون وهو العالم الذي لا يجهل شيئا أما أنه لا سبيل إلى الوقوف والتسلط على ما يريده ويقضيه من آية قاضية فلان مفاتح الغيب عنده لا يعلمها إلا هو، وأما أنه أعلم بالظالمين ولا يخطئهم إلى غيرهم فلانه يعلم ما في البر والبحر ويعلم كل دقيق وجليل، والكل في كتاب مبين.
فقوله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} راجع إلى الغيب المطلق الذي لا سبيل لغيره تعالى إليه، وقوله: {لا يعلمها} إلخ حال و{هو} يدل على أن مفاتح الغيب من قبيل العلم غير أن هذا العلم من غير سنخ العلم الذي نتعارفه فإن الذي يتبادر إلى أذهاننا من معنى العلم هو الصورة المأخوذة من الأشياء بعد وجودها وتقدرها بأقدارها ومفاتح الغيب- كما تبين- علم بالاشياء وهى غير موجودة ولا مقدرة بأقدارها الكونية أي علم غير متناه من غير انفعال من معلوم.
وقوله: {ويعلم ما في البر والبحر} تعميم لعلمه بما يمكن أن يتعلق به علم غيره مما ربما يحضر بعضه عند بعض وربما يغيب بعضه عن بعض، وإنما قدم ما في البر لأنه اعرف عند المخاطبين من الناس.
وقوله: {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها} اختص بالذكر لأنه مما يستصعب الإنسان حصول العلم به لأن الكثرة البالغة التي في أوراق الاشجار تعجز الإنسان أن يميز معها بعضها من بعض فيراقب كلا منها فيما يطرا عليه من الأحوال، ويتنبه على انتقاصها بالساقط منها إذا سقط.
وقوله: {ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس} الخ، معطوفات على قوله: {من ورقة} على ظاهر السياق، والمراد بظلمات الأرض بطونها المظلمة التي تستقر فيها الحبات فينمو منها ما ينمو ويفسد ما يفسد فالمعنى: ولا تسقط من حبة في بطون الأرض المظلمة ولا يسقط من رطب ولا من يابس أيا ما كانا إلا يعلمها، وعلى هذا فقوله: {إلا في كتاب مبين} بدل من قوله: {إلا يعلمها} سد مسده، وتقديره إلا هو واقع مكتوب في كتاب مبين.
وتوصيف الكتاب بالمبين إن كان بمعنى المظهر إنما هو لكونه يظهر لقارئه كل شيء على حقيقة ما هو عليه من غير إن يطرا عليه إبهام التغير والتبدل وسترة الخفاء في شيء من نعوته، وإن كان المبين بمعنى الظاهر فهو ذلك أيضا لأن الكتاب في الحقيقة هو المكتوب، والمكتوب هو المحكى عنه، وإذا كان ظاهرا لا سترة عليه ولاخفاء فيه فالكتاب كذلك. اهـ.

.من فوائد صاحب الأمثل في الآية:

تشرع الآية في الكلام على علم الله فتقول: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو}.
{مفاتح} جمع مفتح (بكسر الميم وفتح التاء) وهو المفتاح، أمّا إِذا كانت بفتح الميم فهي بمعنى الخزانة التي تختزن فيها الأشياء.